التدريس اليوم: بين رسالة التعليم ومعركة التحمّل النفسي
مقدمة: مهنة تحولت إلى صراع يومي
لم يعد التدريس كما كان في الماضي مهنة النبل والتكوين الهادئ للأجيال. اليوم، أصبح المعلّم يخوض معركة يومية في أقسام مكتظة، وأمام تلاميذ يعيشون انفصالًا متزايدًا عن قيم الاحترام والانضباط. لم تعد المدرسة فضاءً للتربية والتعاون بين البيت والمؤسسة، بل أصبحت في كثير من الأحيان جبهة أمام غياب الدور الأسري وضعف الوازع الأخلاقي لدى المتعلمين.
المعلم اليوم لا يواجه فقط صعوبة إيصال المعلومة، بل يصارع لإعادة بناء ما تهدّم في البيت من قيم وسلوكيات. إنها ليست مهنة تعليم فقط، بل مهمة إصلاح وتربية واحتواء نفسي، في زمن اختلطت فيه المفاهيم وتراجعت فيه المكانة الرمزية للمربي.
واقع التعليم اليوم: مهنة تتجاوز حدودها
في الماضي، كان المعلم رمزًا للهيبة، وصوته في القسم يكفي ليزرع النظام والاحترام. أما اليوم، فقد تبدلت المعايير. يدخل المعلم فصله ليجد أمامه أطفالًا لا يعرفون الإنصات، ولا يقبلون الرفض، ولا يدركون معنى الاعتذار أو حدود السلوك اللائق.
المدرسة، التي كان يُفترض أن تكمل دور الأسرة، أصبحت تتحمل عبئًا لم يكن من مسؤوليتها. فبدل أن يركز المدرس على التعليم، أصبح مجبرًا على التربية، والتهذيب، واحتواء الغضب، ومراعاة الحالة النفسية للطفل — كل ذلك بابتسامة مفروضة، وكأن عليه أن يكون إنسانًا خارقًا لا يعرف التعب ولا الغضب.
المعلم بين الضغط النفسي وتعدد الأدوار
لم تعد وظيفة المعلّم مقتصرة على التعليم، بل أصبح مطالبًا بأن يكون:
- مربّيًا يغرس القيم من جديد.
- معالجًا نفسيًا يهدئ الغضب والتوتر.
- أبًا وأمًا يعوضان غياب الحنان في البيت.
- قدوة اجتماعية لا يحق له الخطأ ولا التعب.
ورغم كل ذلك، حين يقع أي سوء فهم أو خطأ بسيط، يُدان المعلّم قبل أن يُسمع له. يعيش كثير من المربين اليوم تحت ضغط نفسي هائل، ينهكون عاطفيًا وجسديًا، ويكبتون وجعهم بصمت. فهناك من يخرج من فصله مرتجفًا، ومن يعود إلى منزله ساكتًا كي لا ينفجر، ومن يقضي ليله في التفكير والقلق، ثم يعود في الصباح مبتسمًا — لا لأنه مرتاح، بل لأن عليه أن يبدو قويًا أمام تلاميذه.
انهيار صامت خلف جدران القسم
وراء كل درس ناجح، معلم يتعب في الخفاء. هناك من يبكي بصمت بعد الحصة، وهناك من يتمنى فقط من يفهم أن ما يمر به ليس ضعفًا، بل إنهاك متراكم.
الضغط النفسي أصبح السمة الغالبة في مهنة التعليم الحديثة. فالمعلم يقف يوميًا بين مسؤوليات متشابكة: تلميذ غير منضبط، إدارة مطالبة بالنتائج، وأولياء أمور يرمون العبء كاملًا على المدرسة.
ومع ذلك، نادرًا ما نجد من يسأل: من يعتني بالمعلّم؟ من يسمع صمته؟ من يقدّر جهده؟
غياب التعاون بين الأسرة والمدرسة
كان يفترض أن تكون العلاقة بين الأسرة والمدرسة علاقة تكامل، لكن الواقع أثبت العكس.
كثير من الأولياء اليوم يسلمون أبناءهم صباحًا ويعتبرون المدرسة مسؤولة عن كل شيء: التعليم، السلوك، التهذيب، وحتى العقاب. لكن في الحقيقة، لا يمكن لأي مؤسسة تربوية أن تنجح دون أساس قيمي متين يبدأ من المنزل.
الطفل الذي لا يتعلم الاحترام في بيته، سيصعب تهذيبه في المدرسة مهما كانت قدرات المعلّم. فالقيم لا تُزرع في ساعة درس، بل تُبنى في محيط أسري متوازن.
التعليم اليوم… وجع لا يُرى لكنه يقتل
المعلّم لا يبحث عن التقدير المادي بقدر ما يحتاج إلى الاعتراف بإنسانيته. يريد من يفهم أن التعب النفسي أخطر من الإرهاق الجسدي، وأن الجهد اليومي الذي يبذله لبناء جيل جديد يستحق التقدير لا اللوم.
إنها مهنة لا يراها البعض إلا من الخارج، لكن من يعيشها يدرك أنها حرب صامتة مع الإرهاق، ومع واقع يزداد تعقيدًا. ورغم كل هذا، يواصل المعلمون العطاء، لأن في داخلهم حبًا صادقًا للتعليم ولأطفالهم، مهما كانت الظروف.
خاتمة: بقاء المعلم واقفًا هو معجزة الصبر
التدريس اليوم لم يعد حلم الطفولة الجميل، بل مسؤولية ثقيلة تحتاج إلى قلب قوي وإيمان راسخ برسالة التعليم. ومع كل ما يواجهه المعلم من تحديات، يظل رمز الصمود والعطاء في زمن فقدت فيه المهن الأخرى روحها الإنسانية.
ورغم قسوة الواقع، يبقى الأمل قائمًا ما دام هناك معلمون يؤمنون بأن بناء الإنسان أعظم من كل الصعاب. إنهم يقاومون بصمت، يبتسمون رغم الألم، ويواصلون المسير لأن التعليم بالنسبة إليهم ليس وظيفة… بل حياة كاملة من الرسالة والإنسانية.
علي الزاهد
